Skip to main content
"هل قرأنا القرآن" أو النقد المزيف

الأساس الذي يقوم عليه نقد يوسف الصديق لما يسميه "المؤسسة التفسيرية" هو التأويل، أو مثلما جاء عليه عنوان كتابه: القراءة. فهو يحاول، بأساليب فيها الكثير من الاستعراض المعرفي (المجاني أحيانا)، أن يصور تلك المؤسسة التفسيرية كنوع من المؤامرة الشاملة لقولبة النص القرآني وتحنيطه في تأويل (قراءة) أحادي يسلبه طابعه "الكوني" و"العقلاني" الأصلي الذي يميزه، بحسب الصديق، حين كان يتخذ شكل "الشذرات الشفوية"، قبل أن يتم تجميده في مصحف مكتوب موحد ورسمي (مصحف عثمان).عمل يوسف الصديق إذا يستهدف استعادة النص الضائع قبل أن تطاله يد المؤسسة التفسيرية، واستعادة طابعه "العقلاني" وأسلوبه الذي يجعله بحسب الصديق "نشيدا كونيا" لا مجرد أحكام شرعية وحكايات خرافية كتلك التي تمتلئ بها كتب التفسير والسيرة.وهكذا فإن ميدان نقد الصديق للتراث التفسيري ليس التاريخ بل التأويل (القراءة). والمؤسسة التفسيرية المنقودة في الكتاب المذكور لا تقع ضمن التاريخ، بل ضمن مؤامرة (تتقصد تآمرها ذاك وواعية به) لطمس الروح العقلانية التي يعتقد الصديق أنها روح النص القرآني وطبيعته العالمية (الكونية) التي جاءت بنظره كثورة ضد روح البداوة وطابع الانغلاق القبلي الذي كان يميز المرحلة الماقبل اسلامية.ونقد التأويل التراثي للقرآن لا يظهر لدى الصديق كبحث في تاريخية الأفكار التي سادت ضمن تلك الفترة "المابعد محمدية"، اي البحث في سياق ظهورها التاريخي، بل تقديمها بصفتها نكوصا (واعيا ومبرمجا) لا نعثر له على تفسيرات تاريخية مقنعة، وحتى أنها تظهر كما لو أنها ثورة مضادة على مستوى الأفكار بدون أن نعثر على الأساس الواقعي لتلك الردة ومبرراتها التاريخية.أما الاستراتيجية المضمرة ليوسف الصديق في كتابه، ومن خلال تلك الثنائية التي يضعها بين النص الأصلي (ما يسميه الشذرات الشفاهية) ذو المنزع العقلاني التثويري بنظره، وبين المؤسسة التفسيرية ذات الطابع المنغلق والتحنيطي، فهي ضرب شرعية تلك المؤسسة، وانتزاع النص القرآني من براثنها التأويلية بهدف فتح امكانية تأويل جديدة. فرهان يوسف الصديق، كما عديد الباحثين العرب الآخرين، هو تقويض سلطة الاكليروس الديني لا بصفتها واقعة تاريخية بل بصفتها سلطة تأويلية، ومن ثم فتح الطريق نحو فضاء تأويلي جديد (معاصر). وبنظره فإن التأويل المعاصر يستوجب استعادة النص (تفسيره) كما انبثق أول مرة، أو لنقل استعادة النص الذهبي المفقود (لا نعرف إن كان الأمر مجازا أم حقيقة فعلية)، والذي حاولت سلطة الاكليروس، ولا تزال، محو روحه الأصلية والاستعاضة عنه بترسانة من التأويلات والحكايات والأحكام والقوانين (ما يسمى الشريعة)..ولو أعدنا صياغة هذا الرهان لقلنا أنه يتمثل في استعادة الروح "المعتدلة"، "السمحة"، "الوسطية" للنص القرآني. أو لنقل أنه رهان "عقلنة"، "لبرنة"، عصرنة" الدين بضربة تأويلية مناقضة لتأويل المؤسسة التراثية، وذلك بما يسمح باعادة وضع الاسلام ضمن دائرة "الحداثة". والحداثة هنا ليست سوى التعبير المتسامي عن المجتمع البورجوازي المعاصر ومدنيته الرأسمالية من خلال وجهها الشاعري المتمثل خاصة في مفردات "الديمقراطية"، "حقوق الانسان"، "العقلانية"، "المواطنة"....واخفاء وجهها المدنس المتمثل في الاستغلال والفقر والطبقية والتهميش والبطالة والاغتراب المعمم.لكن لأن هدم سلطة الاكليروس الديني ليس عملية تأويلية بل تاريخية، فإن النهوض بها غير ممكن إلا في اطار هدم السلطة الاجتماعية الأشمل، أي النظام الاجتماعي السائد نفسه.وإذا كان هدم الاكليروس المسيحي ما كان ممكنا بدون هدم النظام الاقطاعي، فإن التحرر من الاكليروس الاسلامي لم يعد ممكنا بدون التحرر من النظام البورجوازي المعاصر.ولعل التفاوت التاريخي بين النخبة البورجوازية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبين النخبة البورجوازية "العربية" في القرنين العشرين والواحد والعشرين هو بالضبط ما يحول النقد الثوري العميق الذي نهض به كبار التنويريين الأوروبيين الى نقد زائف لدى تنويريينا العرب. ببساطة لأن نقدهم الزائف لم يأخذ من أباطرة الحداثة الأوروبية سوى محدوديتهم التاريخية.لكن لو ذهبنا أكثر الى ما وراء النص لوجدنا أن المطالبات بعقلنة ولبرنة الدين وأقلمته مع "العصر" هي في العمق ليست سوى المطالبات بتشذيب الدين من "نعراته المتطرفة"، اي من نزعة عدم التأقلم مع النظام البورجوازي الحديث. وهذا ليس موجها ضد مجموعات ما يسمى الاسلام السياسي بكل تياراته، بما في ذلك المجموعات المسماة ارهابية، فحسب، بل ضد "عدم التأقلم" نفسه، اي ضد كل نزعة تمرد احتجاجية سواء كانت باسم الاسلام أو أية ايديولوجية أخرى (ضد التطرف يمينا ويسارا كما يرددون في وسائل الاعلام).وهكذا، ففي العمق فنحن لا نعثر على النقد بل على النقد المزيف، على الترويض لا على التثوير، على التدجين الليبرالي لا على التجاوز والاختراق. ووراء اللهجة الحادة في مواجهة مؤسسة التراث فإننا نجد أنفسنا على نفس أرض تلك المؤسسة، أرض التأويل والتأويل المضاد. فيوسف الصديق، كما الطالبي، ألفة يوسف...الخ لا يغادرون أرض التأويل، بل يحاولون إنقاذ تلك المؤسسة التأويلية من خلال "عقلنتها" وتحريرها من لباسها التراثي القديم والمتفسخ.فمثلا، وبدل نقد نظام الارث الذي هو نفسه إرث النظام الرأسمالي من الأنظمة الاجتماعية الطبقية السابقة، أي نقد نظام الملكية الخاصة نفسه، فإن هذا النقد الزائف يحاول استنباط تأويل جديد للنص المقدس يفتح الباب أمام المساواة في الارث. بدون ان يخطر بباله أن الجزء الأعظم من المجتمع المسلوب من الملكية لا يملك ما يورثه سوى وضعه كعبيد الأجر أو كبضاعة قوة العمل الجاهزة للدخول في عالم الاستغلال الرأسمالي. وبدل نقد الديمقراطية الليبرالية بصفتها آخر الأشكال التاريخية للاستعباد السياسي، فإنهم يحاولون اعتصار نص يعود الى ما قبل القرن السابع من أجل انتزاع اعتراف ديني بهذه الديمقراطية التمثيلية المتفسخة في مراكز نشوئها التاريخية. وبدل نقد مفهوم "المواطن"، هذا التعبير الحقوقي عن الفرد البورجوازي المنافس، فإنهم يستنبطون تأويلات مضحكة، من عالم ما قبل "المواطنة"، لأقلمة المتدين مع وجوده الفردي المتذرر حيث "الانسان ذئب لأخيه الانسان".وهكذا، وبدل نقد مفردات المجتمع البورجوازي المعاصر، فإنهم يحاولون، من خلال التأويل، إدماج الدين ضمن تلك المفردات. ولو عبرنا عن هذه المهمة التي ينهض بها "نقاد المؤسسة التراثية" بلغة مباشرة لقلنا أنهم إنما يستهدفون الاستعاضة عن الدين التقليدي القديم بدين بورجوازي حديث.لكن، ومن منظور تاريخي، وبحكم أن المجتمع البورجوازي قد أصبح مجتمعا "قديما"، وأن البشرية قد بدأت فعلا، من خلال الموجات الثورية المتلاحقة، في فتح آفاق تحرر اجتماعي جديدة، فلا عجب أن نكون بإزاء مفارقة تبدو عجيبة: فنقادنا التنويريون يظهرون كفرسان الثورة في مواجهة "المؤسسة التفسيرية"، بل إن ضجيج صيحاتهم "التأويلية" تكاد تكون المادة التلفزيونية المحبذة. بينما تنكشف عورة نقدهم الزائف حالما نعود لأرض قضايا السياسة الراهنة، ويظهر وجههم الفعلي كعرابي الأنظمة السائدة، لتنطفئ لهجتهم الراديكالية مخلية المكان لروح تبريرية ذليلة.

 محمد مثلوثي، تونس 4 مارس 2016 —

Comments