Skip to main content
إن الحاضر هو الذي يملك مفتاح الماضي، وليس العكس ... لأن حركة التاريخ ليست استمرارا أو تواصلا وتتابعا، بل حركة تقطُّع تترابط فيها أنماط الإنتاج في قفزاتها البنيوية من نمط إلى آخر بشكل يستحيل فيه قراءة نمط الإنتاج الرأسمالي مثلا في بنية نمط الإنتاج الإقطاعي أو الاستبدادي أو انطلاقا منها... إن فهم  تطور بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية مثلا في البلدان العربية في الوقت الحاضر، وفهم أزمات هذا التطور يستلزم بالضرورة الانطلاق بالتحليل من هذه البنية بالذات في شكل وجودها القائم في كل من البلدان العربية، وقد يقود التحليل إلى ضرورة الكشف عن تاريخ تكون هذه البنية. إلا أن  هذا التاريخ، من حيث  هو تاريخ تكون علاقات الإنتاج الرأسمالية في اليلدان العربية، لا يبدأ مع ظهور الإسلام مثلا، أو مع الجاهلية، أو مع بدأ العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي أو عصر الانحطاط إلخ ... بل هو يبدأ مع بدء  التغلغل الامبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.... [إن] نمط الإنتاج المسيطر في البلدان العربية هو نمط الإنتاج الرأسمالي — أو شكل تاريخي محدد منه هو الشكل الكولينيالي ... والرأسمالية في أوروبا ترسخت أسسها في القرن التاسع عشر أو في نهاية القرن الثامن عشر.  فالرجوع في التاريخ إلى الجاهلية أو الإسلام، أو قل إلى ما قبل بدء تكون العلاقات الرأسمالية في أوروبا الغربية نفسها، ليس ضروريا لفهم تاريخ تكون البنيات الاجتماعية العربية القائمة حاليا، من حيث هو تاريخ تكون علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها. فلماذا إذن الرجوع بالمجتمعات العربية في حاضرها إلى هذا التاريخ البعيد الذي يفصلها عنه زمان عدة أنماط من الإنتاج، لفهمها في حاضرها بالذات؟ لا شك في ان أشكالا من الإنتاج سابقة على الإنتاج الرأسمالي لا تزال حاضرة في حاضر بنيات الإنتاج العربية. إنما هذا لا يبرر على الإطلاق إتباع منهج الرجوع هذا في محاولة فهم الحاضر، بل إن استمرار تلك الأشكال السابقة من الإنتاج لا يمكن فهمها بذاتها أو بإرجاعها إلى ما كانت عليه سابقا حيث كانت مسيطرة، ففهمها في حضورها الآن في المجتمعات العربية ليس ممكنا إلا في علاقتها ببنية علاقات الإنتاج الرأسمالية في هذا المجتمعات. إن الحاضر مفتاح الماضي وليس العكس، والانطلاق، في فهم الحاضر، من بنية الحاضر نفسه، يتضمن فهما معينا لحركة التاريخ تتقطع فيه الحركة هذه قياسا على حركة أنماط الإنتاج نفسها،  وهو، لهذا، يتضمن أيضا منهجا من التحليل، يستلزم، في محاولة فهم الواقع الاجتماعي، في حاضره وفي تطوره، تحديد بنية علاقات الإنتاج فيه، لأن تطور هذا الواقع تتحدد بالضرورة بتطور هذه البنية بالذات.  فإن مرّ هذا التطور بأزمة، وجب تحديد هذه الأزمة على أنها أزمة هذا الإنتاج المسيطر في هذا الواقع الاجتماعي، وهي بالتالي أزمة الطبقة المسيطرة فيه، أي أزمة سيطرتها الطبقية.
مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية، دار الفارابي، لبنان، ١٩٨٧، ص ١٩-٢١

Comments