رسائل متبادلة بين كارل ماركس وفريدريك أنجلس حول الديانة الإسلامية
الثلاثاء 10 آب (أغسطس) 2010
http://alawan.org/article8166.html?utm_campaign=shareaholic&utm_medium=facebook&utm_source=socialnetwork
تتضمّن مقاربة ماركس وأنجلس للمسألة الدينية مجموعة من الإشكاليات المتّصلة بالفلسفة وتاريخ الأديان، منها ماهية الدين و نشأته ووظائفه، وتستند تلك المقاربة على مستوى منهج التحليل إلى المادّيتين الديالكتيكية والتاريخية. وتتمثّل النتائج الكبرى التي توصّل إليها الفيلسوفان في أنّ الآلهة مصنوعات بشرية وأنّ الدين ظاهرة تاريخية اجتماعية، وأنّه يؤدّي وظيفته في علاقة بالطبقة التي تستعمله، ممّا يعني أنّه يمكن أن يكون له دور تاريخيّ ايجابيّ حينا، ودور سلبيّ أحيانا أخرى، ولكنه في الحالتين يظلّ أفيونا يمنع المؤمنين به من إدراك الحقيقة، ويدفعهم ناحية بحور الأوهام، فالدين شمس وهمية تدور حول الإنسان ما دام الإنسان لا يدور حول حياته الواقعية.
وقد أخضع الفيلسوفان أديانا مختلفة إلى الدراسة منها الإسلام لاستنتاج تلك الأطروحات، وتمكّننا العودة إلى الرسائل المتبادلة بينهما بشكل خاص، من الوقوف على آرائهما حول الديانة الإسلامية وهو ما نبتغي الإبانة عنه هنا، ففي كتاب حول الدين يتضمّن مواقفهما منه مقتطفة من مؤلفاتهما، نجد رسائل ثلاثا حول الدين الإسلامي. ونلفت عناية القارئ إلى وجود خطأ في تأريخ إحداها، ونقصد تأريخ رسالة كارل ماركس، ففي النسختين العربية والفرنسية من الكتاب المذكور تعود سنة كتابة الرسالة إلى 1853، ونحن نرجّح أنّ السنة هي 1853 لا 1855 ، بناء على ترتيب الرسائل، فالرسالة الأولى كتبها أنجلس في 24 ماي / أيار 1853، فكان جواب ماركس عليها في 2 جوان 1853، ثم تأتي رسالة أنجلس الثانية في 6 جوان حزيران 1853 وهي التي يعلّق فيها على ردّ ماركس، ولا يعقل أن يكون ماركس قد كتب رسالته الجوابية بعد عامين من رسالة أنجلس الأولى أي سنة 1855، وأن هذا الأخير قد ردّ عليها قبل أن تصله أي سنة 1853.
في رسالة إلى ماركس بتاريخ 24 ماي / أيار 1853 يقول فريدريك أنجلس إنّه قرأ كتابا عنوانه الجغرافيا التاريخية لجزيرة العرب، تناول فيه صاحبه الأب تشارلز فورستر الكتابات العربية المحفورة، مؤكّدا أنّ المؤرّخ جيبون قد ارتكب بعض الهفوات في جغرافيا العالم القديم، وجيبون هذا مؤرخ انكليزي من القرن 18 كتب مؤلّفا عن تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية، اعتبر فيه أنّ المسيحية لعبت دورا حاسما في انهيار الإمبراطورية الرومانية، وفي المقابل يرى أنجلس أن العكس هو الصحيح فانحطاط تلك الإمبراطورية هو الذي مهّد لانتشار المسيحية.
وتتمثل الاستنتاجات التي توصّل إليها أنجلس من خلال قراءته لهذا المؤلف في أنّ الكتاب المقدّس la bible يقدّم لنا مادّة للبحث التاريخيّ فالإشارات الواردة فيه تصلح لذلك، وبالتالي يجب مقارنة ما يقوله الجغرافيون القدامى بما يرد في الكتب المقدّسة، فما تضمّنه سفر التكوين من ذكر للأنبياء وسلالاتهم يحيل إلى قبائل عاشت فعلا في هذه المنطقة أو تلك، بل إنّه يلاحظ أنّ تقليد تسمية القبيلة ببني صالح أو بني يوسف لا يزال مستمرّا، يقول “إنّ مؤسّسي الإمبراطورية البابلية وهم الكلدان مازالوا موجودين اليوم ويحملون الاسم نفسه، بني خالد، وفي المكان نفسه”كارل ماركس وفريدريك أنجلس، حول الدين، نقل ياسين الحافظ، بيروت، دار الطليعة، ص 94، ومن ثمّة فإنّ مدار الحديث هو ما حفل به الشرق العربي من أديان.
يلاحظ أنجلس وجود تطابق بين ما يقوله الجغرافيون والرحالة في العصر الحديث وما يرد في سفر التكوين عن تلك القبائل والأنساب. وهو ما يعني أنّ الكتاب المقدّس محمّل بوقائع تاريخية وأنتروبولوجية ، فهو مشبع بمشكلات عصره. ومن ثمّة يجب الكفّ عن التعامل معه بوصفه متعاليا عن الواقع التاريخي الذي أنتجه، إذ يكفي اختراق القشرة القدسية الخارجية للنفاذ إلى تلك الوقائع والمشكلات.
وإذا كان الكتاب المقدس يحدثنا بشكل خاص عن اليهود وصراعهم مع غيرهم من الأقوام، فإنّه بالاستناد إلى تلك الوقائع يمكن تبيّن أنّهم ليسوا من حيث أصولهم سوى قبيلة بدوية من بين القبائل التي عاشت في تلك المنطقة، وقد تعارضت مصالحها بعد ذلك مع بقية القبائل جرّاء اشتغالها بالزراعة واستقرارها، ويرجّح أن يكون سبب ذلك الاستقرار عائدا إلى عوامل جغرافية، ففلسطين تغلب على تضاريسها السهول بينما تحيط بها الصحارى. ويدرج أنجلس هذه التطوّرات التاريخية والاجتماعية ضمن حالة عربية سامية بقوله “إنّ الكتابات العربية القديمة، التقاليد، القرآن، السهولة التي يمكن بها جمع الأنساب الخ، ذلك كله يشهد بأنّ المحتوى الرئيسي كان عربيا أو بالأحرى ساميا بوجه عامّ” المصدر نفسه ص 94.
وليست الملاحظات العرضية التي أبداها حول اليهودية والمسيحية سوى مدخل للحديث عن الإسلام، حيث يبيّن أنّ الغزو المحمّديّ من حيث طابعه التاريخي لا يختلف كثيرا عن الغزوات البدوية التي سبقته، مثل تلك التي أدّت إلى تأسيس الإمبراطوريتين الأشورية والبابلية، ويشرح كيف يأتي الغزاة من البدو ويشنّون حربا ويخوضون معارك ضارية، وإذا ما انتصروا يؤسّسون مدنا، ومحمّد فعل الشيء نفسه.
وهو يرى أنّ العرب شعب لا يقلّ مدنية عن المصريين والأشوريين وغيرهم من الشعوب والدليل على ذلك المباني التي شيّدوها، وبالتالي فانّ الحركة التي قادها محمد ليست صاعقة في سماء صافية، فقد عبّرت عن مسعى العرب لبناء دولة مركزية وتطوير حضارة، مثلهم في ذلك مثل شعوب كثيرة أخرى، يقول “يبدو أنّ العرب حيث كانوا قد استوطنوا في الجنوب الغربي كانوا شعبا لا يقلّ مدنية عن المصريين والأشوريين وغيرهم، كما يتبيّن ذلك من المباني التي شيّدوها، هذا يفسر أيضا الشيء الكثير عن الفتح المحمّدي” المصدر نفسه والصفحة نفسها (يستعمل المترجم العربي مصطلح فتح بينما ترد في النسخة الفرنسية عبارة invasion التي تحسن ترجمتها بغزو، أنظر :
Karl MARX et Friedrich ENGELS .Textes choisis، traduits et annotés par G. Badia، P. Bange et Émile Bottigelli(
ومن هنا فإنّ طبيعة الثورة المحمّدية تجد تفسيرا لها في صميم التاريخ باعتبارها حدثا ارتدى لبوس الدين، كان من حيث الشكل رفضا للوهن والتفسخ والفساد الذي أصاب الحياة القبلية فكانت المناداة بالرجوع إلى الصفاء والاستقامة والبساطة والصدق، وفي هذا يتمظهر الرداء الأخلاقي الذي تلحّفت به تلك الثورة.
وإذا كانت الديانة الإسلامية قد اتّخذت شكل ديانة توحيدية فإنّ ذلك غير منفصل عن الموروث التوحيدي السائد زمن محمد، فقد كانت هناك الديانتان اليهودية والمسيحية، كما هناك ظاهرة الأحناف وقبل ذلك حاول اخناتون وقد تولّى الحكم في مصر القديمة توحيد آلهة المصريين في إله واحد هو آتون.
لذلك يلاحظ أنجلس أنّ تراث التوحيد كان غالبا في هذه المنطقة وأنّ التوحيد اليهودي هو جزء منه فقط، وملاحظته هذه تنطبق على الدين الإسلامي أيضا، فالاتجاه التاريخي كان يسير صوب التوحيد الديني، وهو اتجاه يعبّر عن ميل تاريخي لتجاوز التشتت القبلي، وبالنسبة إلى العرب فإنّ الإسلام مشبع بهذه الدعاوى من ذلك القول : كنتم شعوبا وقبائل فألّف بينكم، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والدعوة إلى أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمّى، أما سياسيا واجتماعيا فقد كانت دولة محمّد في يثرب ومن بعدها الإمبراطوريتان العربيتان الأموية والعباسية تجسيدا لذلك.
وفي رسالة جوابية مؤرخة في 2 حزيران 1853 يبدي كارل ماركس موافقته على فكرة التمايز بين القبائل، من حيث اشتغال بعضها بالزراعة واستقرارها، بينما تظلّ أخرى مترحلة، ويحاول الوقوف على أسباب نشأة الدين الإسلامي، وهي تتمثّل برأيه في سبب اقتصادي هو انحطاط التجارة في الجزيرة العربية، ممّا أدّى إلى خراب الكثير من المدن التي كانت مزدهرة قبل ذلك مثل مكة، فقد تغيّر الطريق التجاري الذي كان يربط أوربا بآسيا، ففي السابق كان يمرّ بالجزيرة العربية والبحر الأحمر، غير أنه أصبح يمرّ عبر إيران و الخليج العربي وصولا إلى البحر الأسود.
وخلال بحثه في هذه السبب الاقتصادي يربط بين ما هو تجاري وما هو زراعي ملاحظا انعدام الملكية العقارية الخاصة في الشرق، فالدولة المركزية هي مالكة الأرض معتبرا ذلك مفتاح فهم الأرض والسماء الشرقيين، أي الواقع الاجتماعي و الايدولوجيا على حدّ سواء قائلا : “إن أساس كل ظواهر الشرق (....)هو عدم وجود الملكية الخاصة للأرض هذا هو المفتاح الحقيقي حتى بالنسبة للسماء الشرقية” المصدر نفسه، ص 96 .
وهنا تأتي الرسالة الثالثة، فتعليقا على تلك الملاحظات كتب أنجلس إلى ماركس بتاريخ 6 حزيران 1853، مركّزا نظره على أطروحة انعدام الملكية العقارية الخاصة في الشرق حتى في شكلها الإقطاعي وكيف يفسّر هذا السبب الاقتصادي تاريخ الشرق الديني والسياسي، فهو يوافق ماركس على هذا الصعيد متسائلا عن سرّ عدم وجود ذلك النمط من الملكية في الشرق، مرجعا إياه إلى عامل المناخ وطبيعة التربة، حيث نجد مساحات صحراوية شاسعة. فالصحراء تمتدّ من إفريقيا عبر جزيرة العرب وفارس والهند وبلاد التتر حتى الهضبة الآسيوية العليا، مما يحول دون الملكية الخاصة للأرض، وفي المقابل فإنّ الدولة المركزية وملحقاتها في الأقاليم والمقاطعات هي التي تبسط هيمنتها على الأرض وتتصرف في مساحات كبيرة، فهي المشرف الرئيسي على الزراعة، أي إنها المالك الإقطاعي الوحيد تقريبا، وإذا ما سقطت بفعل غزو خارجي فإنّ الزراعة تتأثر مباشرة وهو ما حدث في الهند على سبيل المثال جراء الغزو البريطاني، يقول “الري الصناعي هو أوّل شرط للزراعة، وهذا عمل البلديات أو المقاطعات أو الحكومة المركزية، إنّ حكومة شرقية تشمل دائما ثلاثة فروع فقط : المالية (النهب في الداخل) الحرب (النهب في الداخل والخارج) والأشغال العامة (تأمين تجديد الإنتاج). ولقد أدارت الحكومة البريطانية في الهند الفرع الأول والفرع الثاني بعقلية ضيقة وأسقطت الفرع الثالث كليا ممّا أدّى إلى خراب الزراعة الهندية” المصدر نفسه والصفحة نفسها.
عندما يأتي الغزاة يدمّرون الزراعة التي كانت تؤمّنها الدولة المركزية فتصبح المساحات الخضراء القديمة جرداء، وهذا ما عرفته مدن شرقية مختلفة، ومن شأن ذلك إلحاق دمار شبه تامّ بحضارة هذا الشعب أو ذاك من الشعوب الشرقية، يقول "هذا الري الصناعي للأرض الذي انقطع فور تدهور جهاز الريّ يعلل تلك الظاهرة الغريبة، وهي أنّ مساحات كبيرة كانت في الماضي مساحات زراعية مزدهرة هي اليوم قاحلة جرداء ( تدمر، البتراء، الخرائب في اليمن، أقاليم في مصر وفارس وهندوستان) كما يعلّل الحقيقة التالية وهي أنّ حربا واحدة مدمّرة تستطيع أن تقضي على سكان بلد لمدة قرون وأن تجرد هذا البلد من كلّ حضارته. المصدر نفسه ، ص ص96 / 97.
واستنادا إلى هذه الملاحظة يحاول الإحاطة بالظرفية التاريخية التي تفسّر الثورة المحمدية، فقبلها كان خراب التجارة في الجزيرة العربية قائلا : “هنا أيضا يأتي دور خراب تجارة الجنوب العربي قبل محمد وهو العامل الذي اعتبرته بحقّ واحدا من العوامل الرئيسية في الثورة المحمدية”. المصدر نفسه، ص97
ولكن كيف حدث هذا الخراب ؟؟ يفسر ذلك بالغزوين الحبشي والفارسي والظروف العامة للتجارة أي ما أشرنا إليه آنفا ممثلا في تغيّر الطريق التجارية بين أوربا وآسيا، وبالنسبة إلى العامل الأخير يعترف بعدم امتلاكه تفسيرا نهائيا لذلك التغير لعدم دراسته التاريخ التجاري للقرون الميلادية الستة الأولى بصورة عميقة، ولكنه يرجح أن يكون العامل الأمني هو السبب، فـ“في جميع الحالات كان لأمن القوافل النسبي في إمبراطورية الفرس الساسانيين المنظمة أثر ضخم ، بينما كانت اليمن بين أعوام 200م و600 م تعاني بصورة دائمة تقريبا من سيطرة الأحباش وغزوهم ونهبهم، إنّ مدن الجنوب العربي التي كانت لا تزال مزدهرة في عصر الرومان غدت مقفرة ومخرّبة في القرن السابع” المصدر نفسه والصفحة نفسها.
مما يعني أنّ الربط بين الغزو الخارجي وخراب التجارة والزراعة وما نتج عن ذلك من أزمة عصفت بمجتمع شبه الجزيرة العربية كان تاريخيا الحاضن الموضوعي للثورة المحمدية، فالغزو الحبشي الفارسي أدّى إلى تحريك العواطف القومية للعرب، يقول : “إنّ طرد الأحباش حدث قبل محمد بزهاء أربعين سنة، وكان بشكل واضح الفعل الأوّل للشعور (للوعي) القومي العربي المستيقظ، الذي حركته من جهة أخرى غزوات الفرس من الشمال التي اندفعت إلى مكة تقريبا” المصدر نفسه والصفحة نفسها.
ويعد أنجلس بأنه سينكب على دراسة تاريخ محمد نفسه لمزيد التعمق في الملاحظات التي ساقها في رسالته : “وسأدرس في الأيام القليلة القادمة تاريخ محمد نفسه” المصدر نفسه والصفحة نفسها.
من خلال قراءة هذه الرسائل يمكننا استخلاص النتائج التالية :
أولا : كان أنجلس وماركس على اطلاع على القرآن وبعض ما كتبه الجغرافيون والمؤرخون الأوربيون والعرب حول الإسلام والعرب والشرق، ومن بينهم شهاب الدين النويري وبرنييه وفورستر.
ثانيا : تنسيبهما لمواقفهما في علاقة بخصوصية الوضع المدروس، فملكية الأرض في الشرق غير ملكيتها في مناطق أخرى، ممّا يفسّر نشأة الأديان التوحيدية في الشرق على وجه التحديد.
ثالثا : إنّ الحديث عن الشعور القومي المبكّر لدى العرب والطبيعة المخصوصة لملكية الأرض يمكنان من تبين الاختلاف بين تشكّل الأمم الشرقية والأمم الغربية، فإذا كانت هذه الأخيرة قد رأت النور مع الثورة البرجوازية الديمقراطية وتوفر عامل الوحدة الاقتصادية، فإنّ الأمم الشرقية ومن بينها الأمّة العربية أقدم من ذلك، فالدولة المركزية العربية على سبيل المثال اكتسبت أبرز ملامحها مع الإمبراطوريتين الأموية والعباسية، حيث توفّرت بشكل ما تلك الوحدة الاقتصادية، وكانت الدولة هي المالك الرئيس للأرض، حتى أنّ هارون الرشيد خاطب يوما غمامة قائلا : أمطري حيث شئت فخراجك لي.
Comments